الصّراط المستقيم
لقد اقتربت ساعة الحسم في مسيرتي الدراسيّة، ودنت تلك اللحظة التي ستغير مجرى حياتي إلى الأبد. الآن لم يتبقَّ على مناقشتي رسالة الدكتوراه في الطب سوى أيّام معدودة. في هذه الفترة كنت منشغلًا طوال اليوم بالتحضيرات والمراجعات النهائيّة، وكأنّني أُسابق الزمن. وعندما يَحلُّ الليل ويُخيّم السكون على أرجاء المدينة، كنت آخذ بين يدي كتاب "الإيقان" [1] لحضرة بهاءُالله، فيعود الهدوء من جديد وتغمرني السكينة.
هو كتاب وجدت فيه علامات كثيرة قد لا تكون ظاهرة للعيان، فمعانيه مثيرة، وكلماته يهتزّ لها الوجدان. لقد أدركت من خلاله كيف أن الأيّام تتوالى وكيف أنّها تتشابه وتختلف عن بعضها، فلكلّ يوم اسم يميّزه عن غيره من الأيّام رغم أنّ الأيّام هي عينها. وكلّما غربت شمس يوم أشرقت في الغد شمس مثلها، فقلنا هذه شمس الخميس وتلك شمس الجمعة، وكلُّها شمسٌ واحدةٌ يُطِلُّ علينا نورُها. ثُمّ يأتي اليوم الخاتم وينتهي الأسبوع، ليبدأ أسبوع جديد وتتكرّر الحكاية نفسها. أليس هذا ما يحدث في عالم الأمر حين يُرسل الله كلماته تَتْرَا: "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ، كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ، فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ، فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ" [2]. فهي نفس الكلمات وإن كان لكلّ كلمة اسمها: "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" [3]. وهي أيضًا كلمات لا تنتهي وإن كان البحرُ مِدَادًا يَكتُبُها: "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا" [4].
إنّ التشبيه المجازي بين دورة الأيام ودورة الأديان يتكرّر في جملة من آيات القرآن الكريم وحتّى في كتب الأديان السابقة كالكتاب المقدّس بعهديه، القديم والجديد. وخصوصًا إذا أخذنا بالقول بأنّ يومًا عند الله، أي في عالم الأمر والوحي، مقداره ألف سنة في عالم الخلق والبشريّة. كما هو مذكور في الآية 47 من سورة الحج: "وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ". فلكلّ دينٍ يَومُه الذي يُقارب الألف سنة، فيَقِلُّ عنها أو يزيد، وله نهاره الذي يبدأ بشروق شمس الهداية وينتهي بغروبها، وليله الذي يغشى النَّاس فيَعُمُّ الظلامُ بعد أن أشرقت الأرض بنور ربّها. وهكذا تتوالى الأيّام والشموس، ويتجدّد النُّور الإلهيّ بلا انقطاع على السماوات والأرض وما فيها. وهذا ما صرت أفهمه من الآية 35 في سورة النور: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ، الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". فنور الله مستمرٌّ إلى ما لا نهاية (نورٌ على نور)، وكلّما ذهب نورٌ خلفه نورٌ جديد قادم من نفس المصدر المضيء، فيهدي الله لنوره ودينه من يشاء.
لم يسبق لي أن استمتعت بآيات القرآن كما الآن، أنا الذي نشأت على ترتيلها، فقد صرت أدرك العمق الذي تحمله معانيها. أتنقّل بين المثل والمجاز مُبصرًا بعد طول عمى وكأنّ حجابًا على العين قد زال، فلَم يَعُد من شيء يغشيها. إنّه عهد الله الأبدي لعباده وسُنَّته التي لن تجد لها تحويلًا، وصراطه المستقيم الذي ارتضاه لخلقه لولا أنّهم تمسّكوا بالهويّة واتّبعوا ما كان يعبد آباؤهم الأوّلون، متناسين بأنّها صفحاتٌ تُتْلَى عليهم في كلّ حين، وبأنّ الله لديه أمّ الكتاب وهو من يُرسل المُرسَلين: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [5].
يقول السيّد محمّد مصطفى في كتابه "النبأ العظيم" [6] حول مضمون هذه الآية من سورة البقرة: "وفي هذا المقام تنبّه الآية المباركة إلى وحدة الفيض الإلهي، فبينما يقول تعالى: "فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ" بصيغة الجمع، يقول تعالى "وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ" بصيغة المفرد. فالكتاب عند الله واحد غير متعدّد. فالقرآن والإنجيل والزبور والتوراة، وسائر الكتب الإلهيّة كلّها كتاب واحد، وتنزيل من مصدر واحد، والأسماء المتعدّدة، عبارة عن صحائفه المباركة الجامعة. كلّ صحيفة منها رسالة كاملة لدورة كاملة. فالناظر إلى الصحائف يراها متعدّدة، والناظر إلى الكتاب يراه واحداً. ولا يوجد كتاب بغير صحائف، كما لا توجد صحائف ذات معنى متّصل إلاّ وهي كتاب، وهذه إحدى آثار التوحيد المتجلّية في الإيمان الجامع والإبداع الكامل".
إنّ كلّ ما سبق يدلُّ على أنّ دين الله واحد، وبأنّ كل الأديان الموجودة ما هي إلا صفحات من نفس الكتاب. لذلك نجد القرآن يؤكّد على أهميّة "الإيمان" وسموّه على أشكال الدِّين ومظاهره لأنّه مرتبط بجوهر الدِّين ومصدره، وهذا ما تُشير إليه الآية 177 من سورة البقرة بصريح العبارة: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله". وبالتالي فهو يساوي بين أتباع الأديان المُوَحِّدة شرط تحقق الإيمان والعمل الصالح: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" [7]. فالإيمان بصيرةٌ واقتناعٌ من القلب، كما جاء في الآية 14 من سورة الحجرات: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا، قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ". وهذا دليل على أنّ الإيمان فوق كل تبعيّة، لأنّ اتّباع الرُّسُل من غير إيمان هو مجرّد هويّة.
فلماذا نتمسّك إذن بالهويّة ونرفض أيّ تجديد في دين الله يلبّي حاجيات العصر ومقتضياته؟ أليس هذا ما حذَّرَنا منه الله تعالى من قبل على لسان رسوله الأمين: "أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ" [8]. ألسنا اليوم بقولنا إنّ رسالة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلَّم هي الخاتم نُعِيدُ ما قالته أممٌ سابقة بأنّ يدَ الله مغلولة وأن لن يبعث الله رسولا؟! ألم نقرأ في سورة الأعراف، آية 35: "يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"؟ أم أنّ الرُّسُل تأتي ونحن مكذّبون، فحقّ علينا القول: "يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ" [9] ؟!
إنّها نفس القصّة وبنفس الدلالة، قصّة تعذيب الرُّسُل وإنكار الرِّسَالة. فكلّما جاء رسولٌ إلهيٌّ بذِكْرٍ مُحْدَثٍ إلّا ولَقِيَ إعراضًا شديدًا لا لشيء سوى أنّ الناس أصبحوا محتجزين في قفص الهويّة، ولا يجرؤون على الخروج من منطقة الراحة التي تعوّدوا عليها فيحاربون كلّ من خالفهم في القول وفي التحيّة: "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ. وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ. حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ" [10].
فمن هو "الداعِ" الذي يدعونا في يوم القيامة إلى شيء سوف نُنكره؟ هل هو صاحب "الإيقان"؟ هذا الكتاب الذي لم أعد أفارقه، فصار يرافقني في رحلتي من الشك إلى الإيمان الذي بدأت أُدركه … كان الوقت يمرُّ بسرعة وكانت الألغاز تحلّ الواحد تلو الآخر. فصرت أتأمّل مسألة الدّاعي الذي وعدنا الله به في يوم القيامة، وكيف لم نفهم بأنّه هو الداعي الذي آمنت به الأمم في كلّ حين بعد إنكار وإعراض متين. ألم يصف القرآن الكريم محمّدًا عليه الصلاة والسلام بداعيَ الله كذلك: "يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ" [11] ؟!
وإن كان هناك شكٌّ في أنّ "الدَّاع" الذي يدعونا في يوم القيامة هو من صنف الرُّسُل الذين يبعثهم الله بالهداية، فما قولنا في "المنادِ" الذي يُنادينا في يوم الخروج: "وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ. يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ" [12]. فنفس الوصف نجده مرة أخرى في مقام سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلَّم: "رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا" [13]. وهل غريب أن ترد كلمة "منادي" في هذين الموضعين فقط؟! وكأنّ القرآن يحدّد لنا مفهوم المنادي بأنه هو كلمة الله وصوته الذي يصيح بالحقّ ليُخرجَ الناس من الظلمات إلى النور، ويَبعثَ من في القبور، بعد أن ماتت القلوب التي في الصدور.
وأمَّا مسألة عبور "الصراط" في يوم القيامة فهي أيضًا من المواضيع الجدليّة التي سال حولها حِبرٌ كثير. وبما أنّ التفسير الشائع لأحداث هذا "اليوم" هو تفسير مادي له علاقة بميعاد الأجساد، فقد تمّ تصوّر الصراط على أنّه جسر مادي ممدود فوق نار "جهنم" ويجب أن نعبر من فوقه لكي ندخل الجنة. لكن إذا كان يوم القيامة هو يوم "الدِّين" الذي ينادي به المنادي ويدعو له الداعي ليُحيِيَ القلوب والأرواح ويُخرج النَّاس من قبر الجهل والتخلُّف، فإنّ عبور الصراط، في نظري، هو الدخول في دين الله القويم والثبات على عهده وميثاقه المتين.
وبالرجوع إلى آيات القرآن الكريم، سنكتشف في أكثر من موضع بأنّ الصراط تعبير عن منهج فكري سلوكي مُحدَّد مغاير للمناهج الأخرى، وهذا المنهج هو دين الله الأبدي المتمثل في عبادة الله تعالى وحده، وليس هناك ما يفيد بأنّ الصراط هو جسر مادي نَمُرُّ من فوقه:
-
"لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [14]؛
-
"إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ" [15]؛
-
"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [16]؛
-
"الر، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [17]؛
-
"وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ" [18]؛
-
"قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ" [19].
إنّه الصّراط المستقيم الذي سنّهُ الله لعباده المؤمنين، والذي ظلّ المسلمون يسألونه في صلواتهم كلّ هذه السنين: " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" [20]. فما كان لأحد يبحثُ عن الله بقلبٍ خاشعٍ ونيَّةٍ صادقة إلّا وأن اهتدى إليه ولو بعد حين، كما اهتدى إبراهيم الخليل في سفره إلى الله: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِين" [21]. هذا ما كان يؤنسني في رحلتي من الظنّ إلى اليقين، رحلة "عُبُورِ الصِّراط" في "يَومِ الدِّين"!!
والآن كلّ شيء أصبح له معنى في نظري، بعد أن أيقنت أنّ الهداية الإلهيّة مستمرّة وأنّنا بالفعل نعيش يومَ القيامة بكلّ تفاصيله وصوره المجازيّة. فما الذي يمنعني بعدُ من اتّخاذ القرار؟!
ومن جديد رُحت أتساءل في أعماقي: كيف لشابٍّ في مقتبل العمر أن يضحّي بنفسه، فيُسجن ويُعدم، فقط من أجل أن يُبشّر بظهور موعود كلّ الأمم؟! وكيف يهجر شخص من عائلة مرموقة حياة البذخ والرفاهية، ويرفض الجاه والسلطة، ليُعلِنَ للنَّاس كافّة أنّه صاحب رسالة إلهيّة من المقدّر لها أن تنشر العدل والسلام وتوحّد النَّاس سَوِيَّا، فيُسجن بدوره ويُنفى، لِتَقُودَه الأقدار في النهاية إلى أرض النُّبُوَّات والرِّسَالات السَّماويّة؟!
كان هناك تقاطع كبير بين حياة هذين الظهورين التوأمين وما رُوِيَ في الأثر الإسلامي من علامات ونبوءات حول مجيء المهدي المنتظر، وظهور المسيح في آخر الزمان ليُخَلِّصَ بني البشر. فـقد عرفت أنّ "الباب" من سلالة الحسين من ولد فاطمة، وقد استمرّ في دعوته ما يُقارب السبع سنوات. وهذا ما جاء في الحديث الشريف: "المهدي منّي … يملأ الأرض قسطاً وعدلًا، كما مُلئت ظُلمًا وجورًا، يَملكُ سبع سنين" [22]. وفي رواية أخرى: "المهدي من عُترتي من وَلَدِ فاطمة" [23]. أمّا "بهاءُالله" فقد كان من وزرائه الذين نصروه وعزّروه، قبل أن يُعلن دعوته هو كذلك، والتي دامت أربعين سنة. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد أجمع عليها رواة الحديث إجماعًا قلّ نظيره، نذكر منها ما روي عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْأَنْبِيَاءُ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، وَإِنَّهُ يَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُفِيضُ الْمَالَ، وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِمَارَتِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِمَارَتِهِ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يَرْعَى الْأَسَدُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنَّمِرُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَم، وَتَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَلْبَثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ" [24].
لقد اكتملت الصّورة التي بدأت أرسُمُها في خيالي عن يوم الله وعن المُنادي، فأبصرَ القلبُ واطمأنَّ الفؤادُ وارتاحَ العقلُ من كثرة العِنَادِ. أجل! فُتِحَ البابُ أخيرًا وسِرتُ على الصِّراط مُنتَشِيًا بهذا الميعادِ.
[1] نزل أثناء فترة النفي في بغداد قبل الإعلان العمومي عن الدعوة – مُعرّب عن الفارسية http://www.aliqan.org
[2] سورة المؤمنون، آية 44
[3] سورة آل عمران، آية 45
[4] سورة الكهف، آية 109
[5] سورة البقرة، آية 213
[7] سورة البقرة، آية 62
[8] سورة البقرة، آية 87
[9] سورة يس، آية 30
[10] سورة القمر، الآيات: 1 ـ 6
[11] سورة الأحقاف، الآيات: 31 ـ 32
[12] سورة ق، الآيات: 41 ـ 42
[13] سورة آل عمران، آية 193
[14] سورة البقرة، آية 142
[15] سورة آل عمران، آية 51
[16] سورة الأنعام، آية 153
[17] سورة إبراهيم، آية 1
[18] سورة الحج، آية 24
[19] سورة الأنعام، آية 161
[20] سورة الفاتحة، الآيات: 6 ـ 7
[21] سورة الصافات، آية 99
[22] رواه أبو داود والحاكم في المستدرك
[23] رواه أبو داود وابن ماجه
[24] أخرجه أبو داود في سننه (4324)، وأحمد في المسند (9270)